الأربعاء، 16 فبراير 2011

العزف على وتر الحزن
قراءة فى ديوانى" على ابو سراج وابو زيد بيومى"
1-حالات على أبو سراج

يضم هذا الديوان ثلاث عشرة قصيدة تقع بين سبع وستين صفحة من القطع المتوسط ويختزل الشاعر موضوع خطابه الشعري في هذا الديوان في هذا العنوان المكثف "حالات" الذي اختاره بوابة شرعية للولوج في الديوان هو عنوان مرواغ ينفتح على أكثر من دلالة في حالات الروح وحالات الذات الشاعرة وحالات الوطن وحالات عدم التوافق بين الذات والواقع وحالات القصيدة في مسيرتها الشعرية وتشكيلاتها اللغوية والجمالية ولكن الراصد لهذه الحالات داخل الديوان يكتشف أن نصوص الديوان مجموعة من الحالات الشعرية ذات أبعاد ذاتية وروحية واجتماعية وسياسية
والملمح الرئيس في هذا الديوان هو ملمح الحزن هذا الحزن وليد حالات التصادم وعدم التوافق مع الواقع من ناحية ومن ناحية أخرى فهو حزن مفتوح على الكون كله حزن وليد الحيرة في فهم هذا الكون المجهول وأسراره الغمضة وفى فهم وضع الانسان فيه ففي قصيدة " ماتحبكهاش" يبدو الشاعر حاملا لهذا الحزن الوجودي القلق
يوووه / اما انا ملعون /دا انا زى ما اكون / مسئول عن حال الناس / والكون
فالحزن هنا حالة انبعاث من نفس الشاعر الذي يحمل هموم الكون ويعجز عن تفسيره وإذا توقفنا إمام مفردة " يوووه" التي تكرر فيها حرف الواو لمناسبة خروج النفس العميق الكاشف عن كم الحزن الكامن في النفس فإننا نكتشف أن هذا الحزن هو الذي دفع الذات الشاعرة إلى الانشطار النفسي وتحولها إلى موقف الواجهة بين ذاتين واحدة تريد الخضوع والأخرى تقف موقف الضد في مقابلة فنية صنعها الشاعر ويبدو ان الشاعر كان مدركا لهذا منذ بداية النص فقد جاء الاستهلال معلنا عن هذه المفارقة
مش طايق نفسى / نفسى اتحرر منها / واعيش درويش / او اروح وما جيش لا يحوشنى طريق / ولا باب ولا شيش
وهذا الاستهلال هو بيت القصيد في هذا النص وهو التفسير الموضوعي لهذه الازدواجية التي دفعت الشاعر إلى استخدام تقنية " المونولوج" الداخلي والكاشف عن البعد الانسانى الشفيف في الدات المحملة بالحزن الرافضة لتفسخ هذا الواقع والمعلنة تمردها عليه والتي انتصر لها الشاعر في نهاية القصيدة في مقابل الذات الأخرى
انا كارهك / مش عايز من وشك / حاجة
وعلى نفس هذا الوتر العازف لحنا حزينا والقائم على الحوار الداخلي تأتى قصيدة " مذنب" حالة إنسانية أخرى تفارق بين عالم الكبار وما يحتوى من فساد ممثلا في شخصية الأب وعالم الصغار وما يحتوى من براء وطهر ممثلا في شخصية البن الطفل وتقيم حوارا من طرف واحد بين الشاعر وابنه إسلام مازجة بين هذين العالمين حتى يستحيل الفصل بينهما والشاعر في هذا النص يقدم نفسه لابنه في صورة متهم جنى على هذا الابن حين احضره إلى الحياة وربما كانت حاضرة في ذهنه مقولة أبى العلاء " هذا ما جناه ابى على وما جنيته على احد" يقول الشاعر مؤكدا على ذلك
انا شفت فى عنيك اتهام / ودبحنى جنونك فى البكا / هدد كيان الروح / وزلزل مهجتى / صبحت حطام / والحق معاك /
والشاعر يحاول أن يبرر هذا الاتهام فيخدعنا حين يوهمنا أن الحديث إلى ابنه إسلام ولكنها محاولة في إن يرفع عن كاهله نير ما تعلق بها من خوف وقلق روحي على مستقبل هذا الوليد وهو الذي يعرف أن المستقبل مظلم ولن يحقق ابنه السعادة وعجزه عن أن يصنع لإسلام هذا مستقبل آمن فيأتي النص مناجاة روحية وصراخ بصوت عال
ابكى من خوفى عليك / ح تقابل بكره ازاى؟
ولذلك لم يكن الاعتراف بالخطأ في إنجاب الابن عملا مجانيا وإنما هو مكاشفة الشاعر لنفسة ومواجهة النفس بالتقصير والعجز
غلطان / وعرفت بغلطتى وندمان /انا كنت انانى وعميان/وجريت ورا نفسى الامارة / ف ظلمتك /جبتك بالغصب /للدنيا القاسية الجباره
وهنا تبدو القصيدة أكثر التصاقا بذات الشاعر وكأنها نحتت من روحه فتأتى الجمل الشعرية متلاحقة كأنها اللهاث واختار الشاعر روى الراء وقافية الهاء الساكنة فكانت كل قافية زفرة الم تخرج من روح الشاعر والغريب أن الشاعر في هذا النص أن الشاعر يخالف الفطرة الانسانية في علاقة الآباء بالأبناء أو الأطفال فلقد فطرت الإنسانية في أقسى حالات الألم على استقبال الأطفال بهالات الفرح حتى إن منهم من يرى أن مداعبة الأطفال فيها تخفيف عن الروح لأنها هروب إلى عالم البراءة المفتقد بيد أن الشاعر يكسر هذه القوانين حين يناغى هذا الوليد بهذا الكم من المرارة والحزن وذلك إنما لكونه شاعر متمرد كشأن الشعراء جميعا على التقاليد المتوارثة في التعامل مع نواميس الحياة ومن منها كان هذا الموقف الذي تولد عنه رغبته في ان يرسم حدود المستقبل لابنه وان يضع له الخطوط العريضة التي يسير عليها حتى يضمن المستقبل
اسلام / لو عايز تنفد بحياتك / وتقضى يومينك بسلام / اتعلق باللى يحبوك / واستغنى يمكن تديلك / اتعفف/ واقبض على دينك / وفى حلمك خليك معقول
وكان الشاعر هنا يوقف آلة الزمن عند فهمه هو للحياة ناسيا أن الظرف التاريخي حين يتغير يتبعه تغير شامل في نواميس الحياة ومنها الذات الإنسانية فإنسان الأمس يختلف عن إنسان اليوم برغم قراءته لكل وصايا الآباء والأجداد وان حاول الشاعر أن يوهمنا انه يقدم هذا الوصايا في ساحة المطلق الانسانى حتى لا تختص بإسلام وحده وإنما تختص بكل من هم في حالته
وفى حالة من الحالات التي ترصد فيها كاميرا الشاعر الأبعاد الواسعة وتتمدد بكادر الرؤية في محاولة للانفلات من مدار الذات إلى مدار الوطن يرصد الشاعر حالة الهيمنة الأمريكية على الوطن في محاولة لإدانة هذه الحالة وإدارة التشوف الشعري عنده إلى وجه الوطن ويبدو ذلك في قصيدة " القطة السودا " مستغلا في ذلك توظيف المفاهيم الشعبية في كراهية القطة السوداء وما نسجت حولها من أساطير فى الرمز بهذه القطة إلى أمريكا فجاء الرمز مفعما بالدلالة ويستهل الشاعر هذه القصيدة استهلالا اقرب إلى العفوية والغنائية
القطة السودا طالعة / بتمزمز فى الفيران / والحية لسه حية / بتولع الغيطان
ويتميز على أبو سراج فدرته على التقاط المفردات العامية الضاربة في عمق الموروث اللغوي الشعبي مثل مفردة "بتمزمز " بما تحمل هذه المفردة من التعبير عن حالة اللذة والرغبة في الإشباع والارتياح النفسي الذي تشير إليه المفردة في حالة مزمزة أمريكا في فئران العرب والشاعر في هذا النص لا يتوقف عند حد وصف الحالة وإدانتها وشجبها بل يمتد في نصه إلى تقديم الحل وإبداء الرأي في أن القوة هي الأساس في صد هذا العدوان الفكري والسياسي
وانت يابو قلب بارد / ياعرة الفرسان / الدنيا بتستحثك / انطق /سمعها صوتك /عيشة واخرتها الموت/ قاوح / اصمد /عارض/ الحزن ظرف عارض/ والفرح اولى بينا/ انوى وربك معانا / قوم كسر القضبان
وبرغم النبرة الوعظية في هذا المقطع وعد استساغتنا لمفردة " بتستحثك " لأنها تدخل في إطار التعقيد اللفظي إلا أن هذا المقطع يعتبر الصوت الأعلى في النص والذي يستصرخ الشاعر فيه أولى الأمر لأنه يرى أن حل القضية في القوة لا المهادنة
ومن الملامح الرئيسة أيضا في هذا الديوان ملمح الفقر ذلك الفقر الضاغط في المجتمع والذي تتكسر على أرصفته أحلام شريحة كبيرة وسائدة في المجمتع والشاعر مهموم بهذه الحالة متلبسها تارة عارضا مساوئها وتارة يساوى بينها وبين الموت وتارة يفضحها كاشفا عن أنياب الفقر التي يغرسها الأغنياء سهاما موجهة إلى عيون الفقراء وتكاد تكون ملاصقة لواعيته الشعرية فتدور مفردة " الفقر والفقرا " كثيرا فى اروقة نصوصه ويكشف عن ذلك في قصيدة " خطى يا موت على كل الفقرا" وهى قصيدة اشبه بحالات السخرية الباكية
احنا نموت احسن لاسيادنا / احنا يارب ارزقنا بجلطه / خلى اسيادنا يارب تعيش / من غير غم ومن غير هم / هما احق/ طبعا احق / واحنا نغور م العيشة الزق / خطى يا موت على كل الفقرا / ما تخليش ع الكوكب اجرا / احنا ان متنا تزول الورطة / احنا عيشتنا اساسا غلطه
وهذه السخرية المشحونة بالألم وان بدت تغلف النص بغلاف الخضوع والاستسلام إلى أنها في الباطن تخفى معنى الثورة على هذه الحالة وتكشف عوار الصراع الطبقي لتحرك الماء الآسن في الأذهان تجاه قضية ظلم الأغنياء للفقراء
وتأتى قصيدة " مستنى اموت" حالة أخرى تعبر عن ضيق الذات الشاعرة بالحياة وتجرد هذه الذات من كل ما تعلق بها وتعريها تماما كأنما الشاعر في حالة مكاشفة مع النفس التي يفضح من خلالها مساوئ العالم والحياة والذات التي فراقت الحياة الفطرية إلى حياة الإبداع والاستشراف من خلال كونه شاعرا ذلك الشعر الذي كشف العالم أمامه وأزال غلالته فبدا على كل ما فيه من مساوئ والشاعر يحمل الشعر في هذه القصيدة عذابات الروح
يوه / يلعن ابوه الشعر / ان كان شوفنى اكتر م اللازم/ وان كان ح يجيب لى الضغط / من يوم ما بلانى الله بقوالته/ ونازل هتش
فالشعر هو الذي دفع الذات إلى قلق الأسئلة حول هذا الكون الملغز وهذه الأسئلة ترهقه ولا يجد لها جوابا لماذا ؟ وأين؟ كل هذه الأسئلة كشفها الشعر ذلك المتشوفة به الذات أعماق الأشياء وهو الذي يدفعها إلى عدم الرضا بالسطح ولكنه يكشف عن عجزة ويواجه نفسه بحقيقة أن الأشياء اكبر منه وان الصوت الفرد حتى وان وصل الى كنه فساد الأشياء لا يقوى على رد كتل الهزائم الروحية فيسخر من نفسه
اتسرق العمر واخرتها / صلحت الكون / طب ايه اللى انا خدته/ من قلع صحابه / غير حرق الدم
ومن هنا يبرر لنا الشاعر لماذا ينتظر الموت ولكنه يراوغنا في انتظار الموت فهو لا ينتظر الموت باعتباره راحة أبدية من ضيق الدنيا التي كبلت الشاعر وقيدت روحه ومنعتها من الانطلاق والتحرر والتعبير عن الانسان كونه إنسان بشفافية وإنما الموت معادل الانتقام وحياة أخرى يحيا فيها الشاعر فوق الأشياء وينظر إلى هذا الكون من عل ساخرا منه ومن خداعه للذات
مستنى اموت / واتفرج على حال الناس/من فوق يمكن ابطل /اقسى على نفسى/ يمكن بعد العمر دا كله ارتاح/ واقدر اكون اللى ما كنتوش /واتخلص/ من هم الهدمة/ وهم اللقمة/ وان شفت الفقر بعينى / ارميه بالطوب / واكشف كل مقالب الدنيا البايخه / ما الوضع ساعتها ح يتغير/ وح اقول كل اللى ف نفسى
ويتميز على أبو سراج في هذا الديوان بقدرته على إيجاد إيقاع موسيقى شديد الحساسية لدلالات النصوص الشعرية بما يصنع تناغما بين الموسيقى والدلالة مضافا إليها بساطة المفردة الضاربة في عمق المخزون الشعبي والعمق الانسانى الذي يلتحف به ضد عوار الحياة ويسد به الفجوة بينه وبين فساد الواقع وكذلك بساطة الجملة التي أبرزت الإطار الموسيقى
والشاعر يبدو انه يدرك تقنيات الكتابة العامية حين يستخدم الأصوات المفردة للماثلة النطق وان كنت اختلف معه في استخدام صوت " الحاء " كثيرا في الديوان من مثل قوله " ح اقول كل اللى فى نفسى" لان صوت الحاء صوت حلقي انفجاري وان كنت أرى أن صوت "الهاء" انسب لأنه صوت مهموس وأتصور أن معظم من كتبوا العامية أو بعضهم استخدم صوت " الهاء" لأنه انسب في الإشارة إلى التنبيه لاستقبال ما يأتي بعده ولان الهاء في اللغة حرف تنبيه أصلا
وإذا كان هذا الديوان يقدم لنا مجموعة من الحالات الإنسانية الممزوجة بالألم والحزن والفقر فان غلاف الديوان الذي جاء متعدد الألوان الزاهية موسوما بالورود لا يتناسب مع ما يحمله الديوان بين دفتيه مما يشكل تناقضا بين الشكل والمضمون ويبقى أن الشاعر له تجاربه التي تميزه عن غيره في شعر العامية



عفاريت أبو زيد بيومي

هل تصنع العفاريت شعرا؟ يبدو هذا السؤال غريبا ولكن غرابته تزول حين نواجه بعنوان ديوان أبو زيد بيومي " العفاريت " هذا العنوان الصادم والمخيف لأنه يثير في واعية المتلقي من أول وهلة معنى الرهبة التي سوف تتحول إلى انفجار انسانى بعد قراءته للديوان ولذلك فقصائد الديوان نوع من إعمال العفاريت التي لا يقوى على فعلها الإنسان لأنها قصائد مترعة بالغربة والثورة مسكونة بالوطن عازفة على لحن المكاشفة عازمة على أن تؤدى رسالتها في حماية الوطن كما يحمل الجندي سلاحه في غمار المعركة
أن الشاعر ككل إنسان ، محدد ومؤقت ، ومحاصر بواقع أمته الكبيرة ، التي يحاصرها خطر أكبر ، هو خطر الوجود ، أو الانقراض الحضاري ، على أيدي حضارات وثقافات أخرى ، تغزو واقعنا من الداخل ، فتفتته إلى أجزاء متناثرة ، من الصعب تجميعها من جديد .
فالشاعر وضمن إبداعه ونتاجه يتجه إلى هؤلاء المهددين الذي هو واحد منهم ، في لحظته التاريخية الراهنة ، منبهاً من خطر الانهيار والانقراض ، ومن الانتحار الذاتي ومن هنا تأتى معظم قصائد الديوان محملة بد فوق جمالية ودلالية باعثة على التحريض والثورة مغزولة بخيوط المكاشف الشعرية لهذا الواقع المزيف ففي قصيدة "شجر اللبلاب" يكشف الشاعر عن هؤلاء المتسلقين الذين ملأوا الأرض زيفا وخداع مما يجل النفوس الشفافة تشعر بالاغتراب الروحي والمادي
لعب وتنطيط /تفانين/ على ساحر واقف في الميادين/بيشكل م الواقفين حواليه/تعابين حيات وعقارب/والناس بحماس بتهيصلوا/فيمد اديه على البدل الواقفة والفاستين/ ويطلع منها حيتان تماسيح/ كان شمع الدهشة على وش الواقفين بيسيح/ يسخن عم الساحر/ ويخلى الناس تشوف الناس كلاب/ شجر اللبلاب عمال يزحف
بريشة حبرها نخاع الروح يرسم أبو زيد هذه اللوحة لأصحاب الحيل الذين يشكلون الواقع وفق مصالحهم إنهم السحرة ولقد جاءت هذه اللوحة من عمق وعى شديد لمعطيات الواقع هذا الوعي الذي وظف البدل والفاستين بديلا عن الإنسان وهذا التوظيف يشير إلى يقين الشاعر بان الإنسان في الواقع تحول إلى مظاهر كاذبة لأنها تختلف كثيرا عن الساحر ولذلك فشجر اللبلاب مستمر في زحفه والشاعر هنا ينبه إليه بشكل ثوري نابع من اغتراب الذات الشاعرة هذا الاغتراب يبدو أكثر وضوحا في قصيدة "عسس"
الليل فى بلدنا /فى كل الشوارع والحوارى /بيمشى على مهله/ ولا حد ابدا من العسس مرة بيتجاهله/امشى ورا الشوارع/ كل الشوارع عسس
بهذه الكارثية يفتتح الشاعر قصيدته هذا الافتتاح الذي يومض في متن النص فحين تتحول الشوارع والنجوم والبحر إلى عسس تصبح الذات في اشد حالات اغترابها إذ لا منجى ولا مفر من هؤلاء العسس ولذلك يتكئ الشاعر في هذا النص على ثقافته الدينية موظفا قصة موسى والفرعون بإسقاط عصري يكشف عن انهيار قوة الحق وانهار الباطل التي أفقدت موسى عصاه فالشعب صار ضعيفا متخاذلا غريبا عن وطنه والفرعون زاد في فجوره فلم يعد يرهب البحر ولا يخشى الغرق
فرعون ما عدش البحر بيخونه / ماعدش البحر يوم يضحك عليه /موسى ضيعنا عصاه/اهرب لفين اعيش دفين المسالة
ومن ثم فان الاغتراب يصبح الخيار الوحيد إمام الذات المسكونة بالعفوية والتي لا ترغب في التلوث ولذلك يعتبر ملمح الغربة من أهم الملامح في هذا الديوان ذي التشكيلات الجمالية والفكرية المتعددة والذي يحمل نصوصا شعرية متفجرة بالرغبة في النهوض بالجماعة الإنسانية التي ينمتى إليها الشاعر أما وجه العفن الذي يثور فى الواقع كاشفة عن أسباب هذا العفن أمام المتلقي لتضعه على مستوى وجدان الشاعر وثورته هذا الوجدان الأحادي فالشاعر من خلال خطابه الشعري لا يعرف المشاعر الرومانسية والمحبوبة عنده هي الوطن وشاهدنا في ذلك نصوص كثيرة في الديوان منها قصيدة روح بتترنح على حبل الوريد /بالرغم من انك حبيبتى/ اختارى وغيرها من القصائد
ولنا أن نتوقف عند قصيدة " بالرغم من انك حبيبتى" التي تبدو فيها البنية الشعرية مخادعة فالقصيدة تبدأ غزلية عفوية وتنتهي سياسية مرة
بالرغم من انك حبيبتى/ فجر بيسرح شعوره فى مراية شرايينى /حلم بيشاور يمامه/طايرة من قلبى المتبل بالصباح /مقدرش اقولها لك بارتياح / والقدس فارده حجرها الميتمى
هذه البداية العفوية المحملة بالشاعر الجميلة تتحول ومعها الخطاب الشعرى للنص إلى حزن دفين لان الذات تفتح عينها باستمرار على هذا الوطن ولا ترى غيره حتى في حالات البوح الوجدانى العاطفى يقف الوطن أمام العين فتنتبه وترتد المشاعر الى الوطن فالشاعر لا يستطيع أن يخدع محبو بته تلك الأنثى ويعلن لها حبه إذ كيف تحب الذات وتعشق والقدس يقيم جنائزه؟
وفى قصيدة" العفاريت " يسلط الشاعر الكاميرا الشعرية لتلقط تفاصيل واقع المهمشين المغتربين عن الوطن المعزولين في عراء العالم الراجفين بالخوف كأنهم أرانب ترجف قابعة في انتظار الموت المدجج بالرعب
السقف ..البوص /النازل من صدره حبال/ف اخرها لنضة /على صدر اللنضة عويل بيرضع غاز/وبيرقص رقصة المدبوح/وحيطان بتبوح بالطوب النى العريان/الا من صورة لابوه/كانت ضحكة صدره فى الصوره/اعلى من صرخة كل رصاص الخواجات/والتانية لجده /الماضى بخطه على كل سطور تراب الارض/ والزارع رجليه فى الطين
إن هذا الوصف التفصيلي مقصود ومتعمد من الشاعر بوصفه تمهيدا يسرق المتلقي وينقله إلى عالم المطحونين وهذا التجريد الشعري الذي يخلو من الموسيقى يدفعك إلى التمسك بمتن النص انه تصوير سردي لعب الشاعر فيه على مفردات المكان ليصنع دراما النص الشعري فبعد هذا الوصف الذي هو مقدمة السرد تجد نفسك أمام عالم حي يطحنه الفقر لكن الشاعر لم يجرده من الحلم فالبطل في هذه القصيدة الدرامية شديدة الخصوبة الجمالية تسرقه لحظ نوم فيرى انه في قصر منيف ينام على سرير هزاز ومن حوله الحوريات بكاسات الخمر ويظل ها الحلم يتمدد على متن النص بكل رغبة الذات حتى " يقوم الواد مفزوع / يلقى جنبيه ع الفرشة /شوية طوب من حلم امبارح وشوية دم"
إن عمق الدراما هنا لا تسمح للفقراء بالحلم فالحلم معادل الموت لأنهم مثل أبطال : كافكا" ينامون في العراء ولا يحق لهم أن يحلموا وهذا يبرر لنا البداية النصية الواصف الكاشفة لمعطيات الفقر المكاني ليخرج من خلاله الشاعر الفقر الروحي والغربة النفسية وهذا الواقع المر الرهيب ، الذي يعيشه الشاعر ، الباحث عن الحرية والكرامة الإنسانية ليصوغها في إبداعه الأدبي . فهو يعاني ثقل الانحطاط الحضاري الذي شوه الإنسان العربي وأفقده إنسانيته الذي أورثنا الجهل والمرض والفقر ، ضمن الاضمحلال والتقهقر في غياهب العالم الثالث وتآمر الدول العظمى ، والزعامات التقليدية على مصادر الاقتصاد والثروات الوطنية ، والقضايا المصيرية ، فالشاعر يعيش كفاحاً طويلاً ومضنياً لاكتشاف ذاتيته والدفاع عن مبادئه وعقيدته ووطنه وعروبته ، مبعثراً في مستنقعات الفساد والتخاذل والتردد ، بين التوفيق والازدواجية ، يعيش في أحواله المتردية من سيئ إلى أسوأ ، فالأنظمة الفاسدة والقيم المنهارة والمجتمع المتفكك ، تبعث به أن يبحث عن حل .. وأي حل ينقذنا من ظلام النفس وغربة العقل والروح .. وهو يتساءل وينبئ ويعكس نتاجه شعراً ، نقوشاً وجدانية في وعي القارئ المجهول ووجدانه .
إنّها مأساة وقضية ، فالكوارث والمحن تمر بنا في ليل آلامنا الطويل ، ليل التساؤل والغبن عاصفة هائجة ، تثير الشكوك !! نحن نجهل ما سوف يجيء .. وما يخبئ لنا القدر ! ماذا بعد هذا الحمل الطويل ؟!
وأبو زيد بيومي راصد لتغيرات هذا الوطن وتحولاته وأتصور ان الهزيمة الروحية لديه من جراء شفافية رؤيته للوطن والتي هي تمثل مرجعيات نصوصه الشعرية دلاليا وجماليا
ويصل قمة الرصد هذا فى قصيدة " ماسكه زمارة رقبتى" تلك القصيدة التي تأخذك إلى التراجيديات اليونانية القديمة التي تعتمد على الجوقة في تحريك دراما النص فقد زاوج الشاعر بين نشيد " بلادى بلادى لك حبى وفؤادى" وهو نشيد اسهم فى تربيتنا الوطنية جميعا منذ أن كنا صغارا ولا زال ولذلك هو واقر في نفوس كل واحد منا وشاحن وطنيته – إن جاز التعبير- وبين مفردات خطابه الشعري العامي صانعا بذلك لوحة فنية جميلة اعتمدت اللون الأبيض في نشيد بلادي واللون الأسود في مفردات العامية الطافحة بالقهر ولم يكن اختيار الشاعر لهذا النشيد عبثا أو صدفة وإنما يكشف عن وعى شديد بما يفعله الشاعر ويدل دلالة لا تقبل الشك في سكون الوطن في روح الشاعر التي استدعت هذا النشيد للتعبير عن أزمته وغربته
(بلادى بلادى لك حبى وفؤادى) اما انا ابقى اشطبى اسمى من سطر احبابك /مفيش على وفا ولا دفنتى ترابك/ انا اللى عضمى انبرى /دهسوه ف اعتابك/لميته ملح ف عيش/ قدمته لولادى/(بلادى بلادى لك حبى وفؤادى)
هذا التزاوج الفني أو التناص صنعه الشاعر بمهارة فنية عالية وزرع فيه معنى الغربة بتكثيف شديد وكأنه يرفض أن نردد الاناسيد الحماسية دون وعى ودون أن تكون محققة للوطنية الصافية الصادقة في الذات فكلنا وقر فى نفوسنا هذا النشيد بما يحمل من معان وطنية يراها الشاعر زائفة ولذلك يطلب من البلاد ان تشطب اسمه من دفتر احبابها فهو ليس واحدا منهم
وأتصور ان هناك معاني شعرية تخرج من واعية الشاعر فى لحظة البوح الشعري التى لو تدخل العقل فيها لأفسدها ويظهر ذلك فى التراكيب الشعرية والأنساق الجمالية التى هى فوق العقل وهذه الأنساق تشف عن توهج روحي ومن هذه التركيبات قول الشاعر فى هذه القصيدة على نفس المنوال
(كم لنيلك من ايادى ماسكة زمارة رقبتى/ كاتمة صرخة يوم ميلادى/ساحبة روحى من كرامتى /حارمة اهلى من حدادى/ بلادى بلادى لك حبى وفؤادى) وهذا المزج شديد العفوية لم تصنعة واعية الشاعر وانما هو دفقة شعورية خرجت من اللاوعى حتى على مستوى الكتابة فكل المقاطع التى استعارها الشاعر من النشيد يضعها بين قوسين كبيرين مغلقين إلا هذا المقطع فانه لم يغلق القوس إلا فى نهاية المقطع الممزوج
ثمة تقنيات فنية لا يمكن ان نغفلها فى هذا الديوان لما لها من حضور جملاى جيد منها
1- الاستهلال
لعل وعي الشاعر بأهمية الاستهلال ووظيفته يجعله يستهل قصيدته بصورة جمالية مكثفةتصدم القارئ وتستثير أقصى غريزة حب الاستطلاع لديه، بغية جذبه إلى أجواء القصيدة. وهو أسلوب ذو حدين؛ إذ لو تبين للقارئ أن القصيدة لم تحتفظ بألقها بعد الاستهلال، فإن خيبة أمل المتلقي لا يشفع لها براعة الاستهلال ونجاحه.ونجد هذا كثيرا فى مطالع القصائد عند الشاعر منها
مطلع قصيدة "غيبنى فيك /العسس/روح بتترنح على حبل الوريد/بالرغم من انك حبيبتى/تجاعيد ولنا لاان نتامل مطلع قصيدة " تجاعيد" على سبيل المثال
تجاعيد جبين الارض /تستنى المطر /ونا جبينى ينتظر تجاعيد /ف سجن الروح مسجون يا حسد /ويوم ما تفلت من بين ضلوعها/ تدوب
فهذه المافرقة بين الروح والارض والمطر واالمفقود فى مقابل الانسانية المفقودة للروح تجعل الاستهلال مفجر لماعنى النص ويمسك بذاكرة المتلقى التى لا تجد بدا من متابعة النص والالتصاق به
2-الجملة الشعرية
فى معظم قصائد الديوان نرى البناء الناضج للجملة الشعرية المشحونة بالصور التى تخدم المعنى فى الجملة وقدرة الشاعر على اصطياد ادق المشاعر المتوارية فى عمق هذا التكثيف الجمالى من مثل " ترتخى اعصاب كلامه / تتكسر اغصان لسانى/ تتهز فروع القلب خريف/ البحر بيعصر كل هدومه ف حلقى/الف لون والطعم باهت"
3-قدرة الشاعر على صناعة ما يسمى بالمتوالية الشعرية القصيدة المقسمة الى عدة قصائد يربط بينها خط فكرى واحد وخيط درامى واحد وقد نحج الشاعر فى هذا فى قصيدتين هما "تعريفات /من دفتر احوال المحروسة" والتى رسم فيها صورا كاريكاتورية ساخرة لمعطيات الوطن التى تحولت الى قوالب جامدة والسخرية عمقت المعنى الفكرى الواحد الذى ينتظم هذه المتواليات منها
النطاح
اله قديم/"مازال يعبد حاليا"/ما لوش معابد او مقر /بيعبده اللى علا والمحتقر/ بقرون رشاوى او وساطة/فى بساطة/ ينطحك تعلا فى سما/او ينطحك تهوى ف حفر
وان بدا كل جزء من القصيدة يشبه التعريفات القديمة لكنها حيلة مراوغة من الشاعر اكتيدسبت فنية جميلة وان افسدتها لاجملة بقرون رشاوى او وساطه لانها فضحت عمق المقطع وتشك فى ذكاء المتلقى
وبعد فان ابوزيد بيومى شاعر جميل لديه قدرة ايضا على رسم اللوحات الفنية الناطقة بالمعانى الجمالية والفكرية فى قصائده


























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق